مراجعة وتحليل فيلم الايرلندي THE IRISHMAN
الايرلندى THE IRISHMAN
======================
"إذا كانوا يستطيعون قتل الرئيس نفسه فبالتأكيد يستطيعون قتل رئيس الاتحاد" ..
المخرج الكبير مارتن سكورسيزى قدم لنا تحف و روائع سينمائية كتير ما زال الناس بيستمتعوا بيها و لا يملوا مشاهدتها و ما زال بيدرسها و يتعلم منها الطلبة و الباحثين و المهتمين بمجال السينما حول العالم ، و من بين التحف و الروائع المتنوعة دى أبدع و اشتهر بالذات بأفلام العصابات و المافيا أو ال wise guys اللى اقترن اسمه بيها فى أذهاننا خاصة بعد الفيلمين الملحميين Goodfellas و Casino فى التسعينات ، و أصبح من أهم المخرجين اللى ساهموا فى تشكيل الصورة اللى فى أذهاننا عن الجريمة المنظمة و عائلات المافيا و تحكمها فى كل شئ خاصة فى فترة الستينات و السبعينات ، طبعا بعد المخرج الكبير فرانسيس فورد كوبولا و ثلاثيته الخالدة The Godfather ..
و عشان كدا لما تم الإعلان عن عودة سكورسيزى للنوعية دى من الأفلام بفيلمه الجديد The Irishman كان فى حالة من الاهتمام و الترقب الشديد ، خاصة مع وجود صديق عمره البوب روبرت دى نيرو و صديقه العزيز التانى چو بيشى اللى كان قاسم مشترك معاهم برضو فى جودفيلاس و كاسينو ، بالإضافة إلى وجود العملاق آل باتشينو اللى من بين الأدوار العظيمة الكتيرة اللى قدمها لنا ما زال مخلد و مرتبط فى أذهاننا بالذات بدوره الشهير فى ثلاثية الأب الروحى .. الناس كانت فى قمة السعادة و التشوق لحضور الحدث أو المناسبة الاستثنائية دى و مشاهدة الكاست العظيم دا على الشاشة من تانى ، مع تساؤل حذر من البعض برضو بيقول إيه الجديد اللى هايقدمه مارتى فى النوعية دى بعد حوالى ٢٥ سنة من كاسينو و بعد ما أصغر واحد فى الشلة دى عدى ال ٧٥ سنة من عمره! ، و كان فى خوف و قلق حقيقى من فشل التجربة و إنها تطلع أى كلام أو مش على مستوى التوقعات و الآمال ..
لكن لما شفنا الفيلم اتأكدنا إن سكورسيزى عمره ما بيعمل حاجة أى كلام فعلا ، و إنه مقدم لنا المرة دى تحفة فنية خاصة تضاف إلى رصيده العامر و مش هايخلص الكلام عنها لسنين طويلة ، مش مجرد فيلم عصابات عادى أو مكمل للفيلمين جودفيلاس و كاسينو بس ، و إنما هو عمل شامل متكامل أنضج و أعلى فى القيمة الفنية و الفكرية بكتير ، و بالتأكيد هو خير ختام للثلاثية العظيمة دى و يمكن يبقى خير ختام لمشوار سكورسيزى الحافل كله كمان ..
"- سمعت أنك تطلى البيوت.
=نعم يا سيدى ، و أقوم أيضا بأعمال النجارة المطلوبة. "
القصة مبنية على أحداث حقيقية سجلها و رواها المحامى و الكاتب "ريتشارد براندت " فى كتابه الصادر سنة ٢٠٠٤ بعنوان "سمعت أنك تطلى البيوت" I Heard you Paint Houses ، و هى الجملة الأشهر فى الفيلم و اللى كان بيستخدمها أفراد المافيا للتعبير عن عمليات القتل و الاغتيالات ، على أساس إن واحد بيدهن البيوت دا يعنى بيدهن حيطانها و أرضياتها بدماء الناس اللى بيقتلهم ، و دى كانت شغلانة بطل الفيلم أو الشخصية الرئيسية فى القصة و الراوى ، الأمريكى من أصل ايرلندى ، "فرانك شيران" (روبرت دى نيرو) الشهير بلقب الايرلندى ..
فرانك شيران كان جندى سابق شارك فى الحرب العالمية التانية و بعد الحرب اشتغل سائق شاحنة نقل كان بينقل فيها اللحوم و البضائع ، و بقى عضو فى نقابة أو اتحاد سائقى الشاحنات Teamsters ، و بعدين فرانك اتعرف بالصدفة على أحد الأعضاء البارزين فى عائلة كبيرة من عائلات المافيا و هو "راسل بافالينو" (چو بيشى) اللى أعجب بيه و أخده تحت جناحه ، و مع الوقت أصبح فرانك دراعه اليمين و المنفذ الرئيسى لعمليات القتل بتاعته ، أو النقاش الرئيسى عنده يعنى بقى ..
بعد كدا راسل بافالينو عرّف فرانك على رئيس اتحاد السواقين "چيمى هوفا" (آل باتشينو) اللى كان من الشخصيات البارزة المحبوبة اللى لها شعبية كبيرة جدا فى المجتمع ، و اللى كان معروف برضو بعلاقته الوثيقة بالمافيا اللى كانت بتحميه و ساعدته فى الحفاظ على منصبه لسنين طويلة .. راسل طلب من فرانك إنه يلازم هوفا و يحميه و يساعده فى التخلص من بعض المشاكل اللى كانت بتواجهه سواء من الأعضاء المعارضين المتمردين أو من أصحاب البيزنس و الحكومة ، و مع الوقت اتوطدت علاقة فرانك بچيمى هوفا جدا و أصبح صديق شخصى مقرب جدا له ..
الفيلم طويل جدا مدته ٣ ساعات و نص زى ما معظمنا عارف فمالوش لزمة الإسهاب فى عرض القصة و أحداثها الطويلة المتشعبة ، كفاية عرض الخطوط الرئيسية و التعرف على الشخصيات الرئيسية التلاتة دول (فرانك و راسل و چيمى) ، لكن عشان نقفل الفقرة دى مهم أوى برضو نقول إنه مع الوقت أعداء چيمى هوفا زادوا ، و ثقته المفرطة و هوسه الشديد بالاتحاد و بالرجوع إلى منصبه و الحفاظ عليه أكسبوه أعداء أكتر ، رغم محاولات كل اللى حواليه و أولهم صديقه فرانك إنهم يقنعوه بتهدئة الوضع و القبول ببعض التنازلات و المساومات و رفضه لكل المحاولات دى ، لحد ما أصبح عبء حقيقى كبير على جماعة المافيا اللى بيحموه ، و بنوصل مع فرانك لنقطة فاصلة و مفترق طرق ما بين صديقه العزيز جدا چيمى هوفا و بين أوامر و توجيهات الجماعة من خلال رئيسه و صديقه المقرب برضو و صاحب الفضل عليه راسل بافالينو ..
"الشباب فى الوقت الحالى لا يعرفون أى رجل كان چيمى هوفا"
عشان نكون فى الصورة و نعيش الأجواء فى الفيلم صح لازم نكون عارفين إن اتحاد السواقين دا زمان ما كانش مجرد نقابة عادية أو حاجة صغيرة بسيطة دا كان حاجة كبيرة و قوية جدا ، و چيمى هوفا كان شخصية مشهورة و محبوبة جدا بسبب إخلاصه الحقيقى و تفانيه الشديد و تكريس حياته للاتحاد لتحسين ظروف معيشة العمال و السواقين , و نجاحه فى فرض شروط و عقود عمل تجبر أصحاب الشركات و الأعمال على إعطاء رواتب مجزية و ضمانات قوية للعمال و السواقين , و كان صاحب فضل كبير فى الارتقاء بالفئة دى من الناس أو المواطنين من الطبقة الفقيرة إلى الطبقة المتوسطة ، و فى نفس الوقت چيمى هوفا كان شخصية لها تأثير و نفوذ كبير بسبب شعبيته دى و بسبب علاقته بالمافيا ، لدرجة إنه كان يعتبر بدون مبالغة تانى أقوى شخصية فى أمريكا بعد الرئيس ، و كان تحت ايده مبالغ ضخمة جدا بالمليارات المفروض إنها مخصصة للتأمينات و المعاشات أو رواتب التقاعد بتاعة السواقين الأعضاء ، لكن معظم الفلوس دى كانت بتستغل أو بيتم تدويرها كقروض لأعضاء المافيا لتمويل بناء الكازينوهات فى لاس ڤيجاس اللى يعتبر هوفا و اتحاد السواقين يعنى بشكل ما سبب رئيسى فى وجودها على الخريطة كمدينة بالشكل اللى نعرفه وقتها ، و بعض المبالغ دى كانت بتطلع برضو لتمويل الحملات الانتخابية زى ما عمل هوفا مع نيكسون فى الستينات ..
لازم نبقى عارفين كمان إن لغز اغتيال أو اختفاء چيمى هوفا من الوجود فى أحد أيام صيف ١٩٧٥ يعتبر من أشهر الألغاز المحيرة فى الوجدان الأمريكى و فى مقام لغز اغتيال الرئيس كينيدى كدا ، و على مدار السنين من بعدها طلعت نظريات لتفسير عملية قتله و إخفاء جثته أو طريقة التخلص منها و مزاعم بمعرفة القاتل الحقيقى ، و فرانك شيران الايرلندى فى اعترافاته و مذكراته اللى سجلها الكاتب و المحامى تشارلز براندت بيقدم إحدى النظريات أو المزاعم دى اللى تبدو منطقية برضو ، رغم اعتراض أو تشكيك البعض فى مدى دقتها أو مصداقيتها ، خاصة إن الكتاب أو فرانك شيران فى مذكراته يعنى مش بس بيتناول سيرة چيمى هوفا دا كمان بيتناول و بيفسر و بيربط معاها أحداث سياسية و تاريخية هامة جدا منها اغتيال الرئيس كينيدى نفسه ..
و عشان كدا لما مارتى اتسأل عن الحتة دى قال إنه مش مهتم أوى بمدى صحة أو صدق القصة على أد ما هو مهتم بشخصية فرانك شيران الايرلندى و انعكاس العالم دا من خلالها .. القصة قدمت له أكتر من اللى كان بيحلم بيه لإعادة لم الشمل و زيارة النوعية دى من الأفلام تانى و تناولها من زاوية مختلفة و برؤية جديدة أنضج و أشمل بكتير ، عشان لو كنا بنتكلم فى جودفيلاس و كاسينو عن قصة صعود و هبوط محدودة على نطاق ضيق لأحد رجال المافيا فى خلال عقد أو عقدين من الزمن فقط أو عن أحد كازينوهات لاس ڤيجاس و طريقة إدارة المافيا لها فإحنا هنا بنتكلم عن أصل لاس ڤيجاس و كازينوهاتها كلها ، و عن أصل كازينوهات المافيا فى كوبا اللى فيدل كاسترو كان واقف لهم زى اللقمة فى الزور فيها و قفل لهم الحنفية دى فكانوا بيكرهوه عمى و بيدعموا أى محاولة لاغتياله أو التخلص منه .. بنتكلم عن رحلة صعود و هبوط على نطاق أوسع و أكبر كانت شاهدة على النص التانى من القرن العشرين كله ، و على العصر دا بمشاهيره و أحداثه التاريخية و السياسية الهامة داخليا و خارجيا و تأثير المافيا و ارتباطها أو علاقتها المباشرة بيها .. و عشان كدا الفيلم دا أعلى فى القيمة بالتأكيد و فى مكانة تانية خالص ..
“لقد كان الأمر كما فى الجيش ، تتبع التعليمات و تنفذ الأوامر أيا كانت ، فتكون قد فعلت الصواب ، فتتم مكافأتك"
فرانك طول الفيلم تقريبا كأنه لسه فى الجيش و كأن الحرب لسه مانتهتش بالنسبة له ، هوا خدم فى الحرب العالمية التانية فى جيش الحلفاء تحت قيادة الچنرال باتون و شارك فى غزو صقلية و قعد هناك فى إيطاليا فترة كبيرة أثناء الحرب و اتعلم اللغة ، و شارك فى جرائم حرب فى حق الأسرى الألمان .. كان بيستغرب من الأسرى اللى كان بيخليهم يحفروا قبورهم بإيديهم و فى كل مرة بيستمر الأسير فى الحفر رغم إنه عارف إن دا قبره ، على أمل إنه لما يحفر كويس فرانك ممكن يرضى عنه مثلا و يسيبه يعيش و دا ما كانش بيحصل طبعا .. و بعد الحرب الأمور ماختلفتش كتير بالنسبة له لما انضم لعالم المافيا و أخده راسل تحت جناحه , حس إنه لسه فى الحرب فى صقلية اللى هيا معقل المافيا و كان بينفذ أوامر القادة أو الزعماء برضو بدون أى تفكير أو نقاش ، حتى لما كلم چيمى هوفا لأول مرة فى التليفون قال بعد المكالمة أنا حسيت انى باكلم الچنرال باتون ..
هو مجرد جندى القتل بالنسبة له شئ عادى روتينى مفيهوش شهوة أو متعة أو مشاعر من أى نوع ، مجرد جندى متلقى و منفذ للأوامر ، غير فاعل و غير مؤثر فى الأحداث على الإطلاق ، و إنما مجرد مرآة عاكسة للعالم دا فعلا ..
و روبرت دى نيرو أبدع فى أداء شخصية فرانك شيران و تقمصها و لبسها تماما ، و هوا اللى عرض الكتاب على سكورسيزى و كان صاحب الإقتراح و الفكرة أصلا ، و لما سكورسيزى شاف شغفه و حماسه الشديد و قراءته و فهمه للشخصية اطمن إنه وجد غايته المنشودة أخيرا .. ممكن البعض يحس إن الدور مفيهوش شغل أو مجهود كبير لأن الشخصية معظم الوقت مش بتظهر أى مشاعر أو انفعالات أو تعبيرات و لكن فى الحقيقة دى فى حد ذاتها كانت صعوبة الدور .. إحنا كتير بنعجب و ننبهر بممثل بيقدم أداء قوى بتعبيرات وشه و بحركاته أو لغة جسده من غير ما يتكلم ، لكن صعب أوى ممثل يسيطر على الفيلم بالكامل و ياكل الجو من غير لحظات انفعال أو انفجار و من غير ما يعبر بوشه حتى و نبقى فاهمين و حاسين و واصل لنا كويس أوى إيه اللى بيدور جواه .. دى نيرو عمل كدا و بخبرته قدم السهل الممتنع و قدر يحقق المعادلة الصعبة دى .. و أعتقد كمان إنه اتظلم فى الترشيحات و الجوايز عن الدور ده ..
المفاجأة الحقيقية بالنسبة لى كانت فى چو بيشى و أداؤه لدور راسل بافالينو المختلف تماما عن أدواره السابقة اللى اشتهر بيها فى جودفيلاس و كاسينو ، بدل رجل العصابات العشوائى المتهور المندفع صاحب الرقم القياسى فى عدد المرات اللى قال فيها كلمة fu*k و مشتقاتها اللى هيا عندنا يعنى تبا و اللعنة و الأوغاد أو الملاعين اللقطاء و هكذا.... بنشوف هنا رجل العصابات ال wise guy بجد الهادى الراسى الحكيم الرصين ، و كلهم كانوا معاه ، بينفذوا كلامه و يهابوه و يعملوا حسابه و يرجعوله فى كل حاجة و كل الطرق كانت تؤدى فى الآخر إليه زى ما قال فرانك ، و ما كانش بيتكلم كتير و فى بعض الأحيان كان فرانك بيفهم هو عايز إيه من نظرة عينيه بس .. چو بيشى بعد ما كان تقاعد و بطل تمثيل من سنين رجع مخصوص عشان يعمل الدور الاستثنائي دا بالبراعة و التلقائية الشديدة دى و بالتأكيد استحق الترشيحات الكتير اللى نالها كأفضل ممثل فى دور مساعد ..
أما آل باتشينو اللى أول مرة يشتغل مع سكورسيزى كان بيلعب فى ملعبه و منطقته الدافئة فى دور چيمى هوفا ، و قدر بسهولة و براعة و إتقان شديد إنه يستغل أدوات الشخصية الثرية دى و يتألق فى إظهار حس الزعامة و الخطابة و فى تجسيد الانفعالات و الانفجارات العاطفية بتاعة الشخصية ، على عكس صديقه دى نيرو تماما .. أنا شفت چاك نيكلسون و هوا عامل نفس الشخصية فى فيلم "هوفا" بتاع دانى ديڤيتو و كان أداؤه قوى طبعا و عملها حلو لكن آل باتشينو هنا كان أعلى و أقوى بصراحة و عاملها بمزاج و لايقة عليه أوى ، و استغل بعض التفاصيل اللى ما كانتش معروفة أوى عن الشخصية و ذكرها الكتاب زى انضباطه الشديد فى المواعيد و كرهه الشديد و عدم تحمله للتأخير و زى حبه للآيس كريم و غيرها من التفاصيل اللى طلع منها مواقف و لحظات كوميدية و درامية ممتعة و رائعة جدا ماتتنسيش .. آل باتشينو قدم لنا واحد من أقوى و أفضل أدواره و بالتأكيد يستحق هوا كمان الترشيحات اللى نالها كأفضل ممثل فى دور مساعد عن الدور ده ..
مشاهدة التلاتة دول مع بعض كدا على الشاشة متعة خالصة فى حد ذاتها ، و كمان مع الأداء القوى و المذهل دا شكرا أوى يعنى المتعة كانت فى أبهى صورة ، خاصة بعد السن دا و هما التلاتة أعمارهم تتراوح أعمارهم بين ال ٧٥ و ٨٠ سنة ..
“يا للعجب! أنت لا تعرف كيف يمر بك العمر سريعا حتى تصل إلى آخره! "
و دا ياخدنا لنقطة كانت مثار خلاف و جدال كبير و هى تكنولوچيا تصغير السن أو ال De-aging اللى استخدمها سكورسيزى فى الفيلم .. الأحداث على لسان فرانك شيران بتدور ما بين سنة ١٩٤٩ و سنة ٢٠٠٠ يعنى حوالى ٥٠ سنة ، و السيناريو بيخلينا نتنقل بين الحقب الزمنية أو المراحل العمرية للشخصيات رايح جاى بدون ترتيب زمنى ، ففكرة الاستعانة بممثلين تانيين لأداء الشخصيات و هما صغيرين فى السن كانت فكرة صعبة هتعمل لخبطة جامدة و كانت مرفوضة بالنسبة لمارتن ، يعنى هايجيب مين و يفهمه و يشرحله إزاى و إزاى هيطلع منه اللى عاوزه و يحافظ على نفس المستوى مع الممثل الرئيسى .. هوا كان عايز يبنى حالة أو تأثير تراكمى للزمن على الشخصيات و كان لازم نحس إنهم معانا بنفسهم طول الوقت لأن دا مهم و بيفرق فى آخر الفيلم أوى .. فكان الحل فى الاستعانة بتكنولوچيا ال De-aging دى و لكن كان فى مشكلة تانية و هى إن التكنولوچيا دى بتعتمد على إن الممثل و هوا بيمثل بيلبس حاجة كدا على راسه و وشه فيها كور صغيرة أو نقط محددات من خلالها بيتم التقاط الأداء بتاعه و معالجته على الكمبيوتر بعد كدا ، و دا كان صعب و مرفوض برضو بالنسبة لمارتن لأنه هايشتت الممثلين الكبار دول و مش هايعرفوا يطلعوا كل اللى عندهم و الفيلم أساسا معتمد على الدراما و الحوار بين الشخصيات ، على عكس أفلام الخيال العلمى و الفانتازيا و السوبر هيرو اللى بتستخدم فيها التكنولوچيا دى كتير دى كانت أول مرة هتستخدم فى فيلم من النوعية الدرامية البحتة دى و بالطبيعة الخاصة دى للكاست بتاعه ..
و بعد أكتر من سنتين من البحث العلمى و الابتكار و التطوير بالاستعانة بشركة متخصصة فى المؤثرات البصرية قدروا أخيرا يتوصلوا لابتكار جهاز تصوير خاص فيه الكاميرا الأساسية بتاعة سكورسيزى فى المنتصف و على جانبيها كامرتين خاصتين بيشتغلوا بالأشعة تحت الحمراء بيلقطوا كل حركة و تعبير و كل تفصيلة فى وش الممثل و هوا بيؤدى ، و ابتكروا برنامج أو سوفت وير مخصوص ذكى جدا لمعالجة كل التفاصيل دى و بناء عدة نماذج أو نسخ زمنية لكل شخصية مع الحفاظ على الأداء الطبيعى الأصلى بتاع الممثل سواء دى نيرو أو بيشى أو باتشينو ، و النتيجة كانت حاجة مذهلة غير مسبوقة و تطور هام جدا للتكنولوچيا هيستفيد منه المخرجين و صناع الأفلام بالتأكيد و يبنوا عليه ..
لكن للأسف برغم المجهود و الوقت و الصرف دا كله كانت حركة أجسامهم بتخونهم فى بعض الأحيان و بتفضح السن الحقيقى خاصة فى بعض مشاهد فترة الأربعينات و الخمسينات .. ناس كتير خدت بالها من العيب ده ، بعضهم اتقفل منه و استنكر و البعض الأكبر مافرقش معاه كتير خاصة بعد ما عدى الجزء الأول التمهيدى فى الفيلم و دخلنا فى الجد و اتعودنا على إيقاع و طبيعة السرد ..
أنا عن نفسى بغض النظر عن الانقسام أو الجدال دا حسيت إن العيب دا - و إن كان غير مقصود بالتأكيد - بيساهم فى ترسيخ و تعميق الميزة الكبرى للفيلم اللى خلته فى مكانة تانية خالص فعلا و هى المنظور أو الرؤية الفريدة اللى بيتناول بيها سكورسيزى العالم دا و الحياة دى ، و اللى بيختلفوا تماما عن المنظور أو الرؤية بتاعة جودفيلاس و معظم أفلام الجريمة و العصابات التانية ..
طول الفيلم – و على عكس الأفلام السابقة - مفيش أى نية لأى تمجيد أو تحبيب أو إظهار لأى متعة فى العالم دا و الحياة دى ، من أول مشهد بنتحرك مع الكاميرا فى لقطة طويلة ، مش فى بيت فخم كبير مليان تحف و مجوهرات و أثاث غالى ولا فى كازينو كبير ولا فى مطعم راقى مشهور ، و لكن فى دار رعاية صحية للمسنين بنتجول فيها بالكاميرا بين المرضى و العجزة المسنين لحد ما بنوصل للشخصية الرئيسية فرانك شيران الايرلندى العجوز الكسيح ، شبه حسنى مبارك فى أواخر أيامه أوى ، قاعد على كرسى متحرك و لابس الخاتم الدهبى اللى أهداهوله راسل بافالينو و الساعة الدهبية اللى أهداهاله چيمى هوفا و بيبدأ يحكيلنا البلاوى بتاعة الماضى من الأول .. أى حد بيظهر فى الفيلم لأول مرة بيوقف الشاشة عليه ثوانى و يكتب عليها إسمه و معاه تاريخ و طريقة موته أو قتله .. الجرائم و حوادث القتل بيتم تنفيذها بهدوء من غير إثارة أو أكشن أو أى ضجة كأنه عمل روتينى يومى مفيهوش أى متعة ، دى شغلانتك دهان البيوت و بتعملها عشان تاكل عيش و تأكل أسرتك و تفتح بيتك مش أكتر .. البيوت و الأسر عادية جدا هنا برضو و مفيش البنت الديڤا المثيرة اللى بيجرى وراها البطل و يزغلل عنيها بالفلوس و النفوذ و تطلع عينه بعد كدا ولا الزوجة الطائشة المجنونة اللى قارفاك و منكدة عليك و مسودة عيشتك ..
“كلهم ماتوا يا سيد شيران ، لقد انتهى الأمر ، كلهم رحلوا.. راسل ، أنچيلو ، ساليرنو ، تونى برو ، دورفمان ، سالى باجز ، كلهم ذهبوا.. من الذى تحميه الآن؟! "
الجزء الأخير و الأهم و الأقوى فى الفيلم فى رأيى أكتر من نص ساعة أو ساعة إلا ربع تقريبا بيعرض فيها الناس دول بعد ما كبروا و دخلوا السجن ، اللى سنانه وقعت و اللى جاله جلطة و اتشل و اللى مابقاش عارف يتحكم فى بوله و اللى جاله سرطان ، و اللى أبناؤه أو بناته هجروه و اتبروا منه مابقوش طايقين يشوفوه حتى .. كان ممكن يقفل الفيلم قبل الجزء دا أو بمجرد دخول السجن يعنى و يكتب كلمتين على الشاشة عن كل واحد و خلاص ، لكن هوا قاصد تماما إنه يوريهوملنا و هما ايديهم بتترعش أو رجليهم مش شايلاهم أو مش عارفين ياكلوا زى الناس .. قاصد يفكرنا إن كله رايح و زايل و ماحدش واخد منها حاجة ، و قاصد يورينا التمن و الضريبة الحقيقية للحباة دى ، و قاصد يوصل لنا الشعور بالندم الحقيقى و يوصل لنا العظة و العبرة الخالصة و التجسيد الأمثل لحكمة إنك بتحصد اللى زرعته و ان الجريمة لا تفيد فعلا ..
زى ما يكون مارتى جاب كل حاجة أبهرنا و أثارنا بيها قبل كدا فى جودفيلاس و كاسينو و بيتأمل فيها و بيفككها و يشرّحها قدامنا و يورينا الجانب الآخر منها أو يعكسها تماما فى بعض الأحيان عشان نشوف الصورة كاملة ، و فى الحقيقة نقدر نقول إن الايرلندى بيبدأ من حيث انتهى جودفيلاس ، عشان يبقى أعظم ختام لواحدة من أعظم ثلاثيات السينما ..
و ماينفعش ننسى الكاتب الأستاذ الكبير ستيفن زيليان اللى أبدع فى السرد السلس غير النمطى اللى تغلب بيه بشكل كبير على طول القصة أو طول مدة الفيلم يعنى ، و خلانا نتنقل بين الحقب أو التوقيتات الزمنية بسهولة و كان بيدخلنا فى فلاش باك جوا فلاش باك تانى و يطلعنا منهم من غير ما نكون تايهين خالص و نكمل معاه القصة و إحنا مستمتعين ، دا غير الجمل أو التعبيرات الخاصة برجال المافيا اللى استخدمها و وظفها فى السيناريو بشكل عبقرى بالإضافة كمان إلى الجمل و المواقف الكوميدية جدا اللى تضحك من القلب و اللى مع طريقة السرد و المونتاچ العبقرى قضوا تماما على أى وجود للملل أو الرتابة فى الفيلم ..
"عندما يقول أحدهم أنه قلق قليلا فهو فى غاية القلق , أما عندما يقول أنه أكثرمن قلق قليلا فهو يائس تماما"
الفيلم حاصل دلوقتى على تقييم عام 8 على IMDB و على تقييم نقدى 96‰ على Rotten Tomatoes ، و الغريبة بجد إنه اترشح ل ١٠ جوايز أوسكار و اترشح لمعظم الجوايز فى الجولدن جلوب و البافتا برضو و ماخدش ولا جايزة ، ولا جايزة واحدة !! .. هل دا بسبب وجود منافسة شديدة و أفلام حلوة كتير الموسم اللى فات دا فعلا ؟ ولا استمرار لتجاهل نتفليكس المنتجة للفيلم و اللى اكتسبت أعداء و منتقدين كتير بعد اقتحامها بكل قوة لمجال صناعة الأفلام السينمائية الفترة الأخيرة ؟ ولا بسبب تصريحات سكورسيزى الأخيرة ضد مارڤل و أفلام السوبر هيرو ؟ ولا عشان طول مدة الفيلم اللى استفز أو فصل ناس كتير ؟ ولا عشان كل دول ؟ ماعرفش بصراحة بس ولا جايزة واحدة حتى!! دا كدا بقى They might be demonstrating a failure to show appreciation ..
بس اللى أعرفه بالتأكيد إن الايرلندى وجبة سينمائية شاملة و دسمة و ممتعة جدا ، و تحفة فنية و تتويج رائع لمشوار سكورسيزى الفنى العامر بالكلاسيكيات ، و ان احنا محظوظين فعلا اننا حضرنا مارتن و أصحابه و هما بيتجمعوا من تانى بعد العمر دا و يقدمولنا حاجة بالعظمة و الفخامة دى.
