برازيل BRAZIL

 

برازيل BRAZIL

==============
 
- فى ظل التفجير الأخير ، تفتكر حضرتك ايه السبب وراء التزايد الكبير المستمر فى عدد التفجيرات و العمليات الإرهابية فى الفترة الأخيرة؟
= أقلية فاجرة عديمة الرحمة ، مفتقدين للأخلاق و القيم و الروح العظيمة بتاعتنا ، متغاظين و مش قادرين يتقبلوا نجاحنا الساحق و إنجازاتنا الكبيرة .......
- تفتكر حضرتك اننا فى طريقنا للفوز و الانتصار فى حربنا ضد الإرهاب؟
= طبعا بلا شك ، احنا محاصرينهم و مش سايبينهم و كل يوم بنوجهلهم ضربات ساحقة و خلاص يعتبر قضينا عليهم .. نقدر نقول انهم أصبحوا خارج اللعبة خلاص.
- بس حضرتك احنا بقالنا دلوقتى ١٣ سنة كدا !!
= (بيبتسم بكل ثقة) دا حظ مبتدئين بس.
 
دا جزء من حوار بيدور بين المذيع و أحد المسئولين الكبار فى المشهد الافتتاحى للفيلم الكلاسيكى العبقرى "برازيل" اللى صدر من أكتر من 30 سنة للمخرج الكبير "تيرى جيليام" ، بيجسد فيه ديستوبيا الدولة الشمولية القمعية البيروقراطية بشكل ساخر جدا و مثير للفكر و التأمل جدا جدا ..
الفيلم بتدور أحداثه فى مكان غير محدد و زمن غير محدد فى عالم مستوحى إلى حد كبير من العالم بتاع رواية 1984 العظيمة لچورچ أورويل ، مع بعض الاختلافات أو التغييرات .. هنا الكيان اللى بيمثل مركز السلطة و مصدر القوة و التحكم فى الدولة هو وزارة المعلومات ، اللى بتراقب الناس طول الوقت و بتتحكم فيهم و عندها بيانات و أدق التفاصيل عن كل واحد و كل حاجة فى البلد .. 
 
على رأس الوزارة دى قسم استخلاص المعلومات ، اللى هوا اسم الدلع بتاع قسم الاستجوابات أو قسم التعذيب و القتل أو أمن الدولة يعنى ، و دا المسئول عن التحقيق مع أى معارض أو مشتبه فيه (اللى هما نص الشعب تقريبا) .. و بيتبع الوزارة جهاز الخدمات المركزية المسئول عن إمداد جميع الخدمات و التوصيلات فى المنازل و كل مكان و ربطها فى شبكة كبيرة موحدة لضمان السيطرة و التحكم فى كل وسائل المعيشة .. بالإضافة طبعا لجهاز الإعلام الموجه الممنهج التابع للوزارة برضو ..
 
و فى القاع يوجد قسم السجلات أو الأرشيف اللى فيه الموظفين العاديين أو الأقل رتبة ، و اللى بنقابل فيه الشخصية الرئيسية فى الفيلم ، موظف اسمه "سام لاورى" .. سام ذكى جدا و دماغه نضيفة لكن سلبى و راضى بمزاجه بالوضع بتاعه رغم ثراء أمه الشديد و كثرة معارفها و محاولاتها المتكررة لترقيته لقسم استخلاص المعلومات بيرفض الترقية فى كل مرة و مش عايز يسيب ال comfort zone بتاعته ، اللى هوا يا نحلة لا تقرصينى ولا عايز منك عسل ، حتى لما بيقابل صاحبه "چاك" اللى شغال فى قسم استخلاص المعلومات بالصدفة بيحاول چاك انه يقنعه و بيقول له ان الأرشيف دا حيطة مسدودة مالوش مستقبل فبيقول له ممتاز رائع عظيم جدا و هو المطلوب .. هوا شخص حالم بيحلم دايما فى نومه - و أحيانا أثناء اليقظة - بأنه فارس ملائكى بجناحين بيطير و بيحاول ينقذ حبيبته و فتاة أحلامه الأسيرة المحبوسة من الوحوش و الأشباح ..
 
بتتغير حياة سام تماما فجأة بسبب حادثة فى غاية العبثية بتبدأ فى أول الفيلم بموظف فى أحد أقسام الوزارة عصبى حاسس بالملل الشديد و مش طايق نفسه بيطارد دبانة غلسة و بينجح فى سحقها أخيرا فى السقف , لكن بتقع الدبانة الميتة على الآلة الكاتبة الأوتوماتيكية بتاعته أثناء كتابة ورقة إذن بالقبض على واحد هارب مشتبه فيه اسمه "تاتل" فبتسبب الحشرة لخبطة بين حرف ب و حرف ت و بتطلع الورقة باسم "باتل" , اللى هوا واحد تانى خالص مواطن عادى غلبان جدا بيقبضوا عليه بكل قسوة و وحشية و بيتاخد من بيته وسط زوجته و عياله و بيتحقق معاه و بيتعذب و بيتقتل أثناء الاستجواب .. سام هو أول واحد خد باله من الخطأ دا أثناء شغله و ترتب عليه أحداث و مواقف اضطر بسببها انه يخرج من القوقعة اللى كان حابس نفسه فيها و يقف لأول مرة فى حياته فى مواجهة النظام ..
 
من أهم المواقف دى الموقف اللى بيروح فيه لزوجة الراجل اللى اتقتل ظلم فى محاولة سخيفة لإصلاح الموقف عشان يديلها شيك مرتجع بمصاريف تعذيب جوزها (أصل النظام بيفرض رسوم تعذيب على أى مشتبه فيه أو أى حد بيتحقق معاه و كل ما يطول الاستجواب و مايعترفش بسرعة يتخصم منه فلوس أكتر و هكذا) .. و كمان بالصدفة بيقابل جارة الراجل اللى اتقتل ، واحدة اسمها "چيل لايتون" نسخة طبق الأصل من فتاة أحلامه اللى بيشوفها دايما فى المنام و هو بيحاول يحررها و ينقذها .. چيل بتمثل كل حاجة عكس سام تماما ، بنت شجاعة جدا و إيجابية و متمردة و ما سكتتش و راحت تقدم شكاوى و تفضح اللى حصل فى كل حتة ، سام عرف انها أصبحت مطلوب القبض عليها و التخلص منها بسبب الدوشة اللى عملتها فقرر يقبل الترقية بتاعة أمه عشان يحاول يحميها من النظام الظالم ..
 
فى موقف كمان مهم جدا حصل مع سام لما نظام التكييف اتعطل عنده فى شقته و كلم جهاز الخدمات المركزية عشان يبعتوا حد يصلحه قالوله مفيش حد فاضى خالص ، لكن فجأة دخل عليه واحد ملثم صلح له العطل و بالصدفة اكتشف انه هوا "تاتل" الإرهابى المطلوب القبض عليه ، طلع مهندس تكييف مش إرهابى ولا حاجة بس كل الحكاية انه كان شغال مع جهاز الخدمات المركزية قبل كدا و سابهم لما زهق من الروتين و البيروقراطية الشديدة و قرر يشتغل حر لوحده ، فأصبح فى نظر النظام عنصر خارج مخرب و إرهابى مطلوب القبض عليه .. رغم رمزية الموقف لكن فتح عيون سام على حاجات كتير و حس هنا ان تاتل دا بطل خارق جرئ بيتحدى النظام و انه بيكمل - هوا و چيل - حاجات كتير كان مفتقدها سام فى شخصيته و فى حياته ..
 
و على مدار الفيلم بنشوف سام مع چيل و تاتل بيخوضوا مجموعة من المغامرات و المواقف مع النظام ، بعضها مواقف حقيقية ساخرة فى عالم الواقع و بعضها فانتازى فى عالم الأحلام بتاع سام بشكل رمزى عبقرى ، و فى تناغم رائع بيتنقل المخرج تيرى جيليام ما بين عالم الواقع و عالم الفانتازيا فى سلسلة من الأحداث لحد ما نوصل للنهاية اللى طبعا بتكون كئيبة مأساوية زى أى ديستوبيا بتحترم نفسها ..
 
من الأفلام اللى حقيقى تستمتع فيها بالتفاصيل الكتير و الدلالات الرمزية فى كل مشهد و تبقى عايز تشوفه تانى و فى كل مرة تطلع تفاصيل أكتر و تستمتع أكتر ..
البيروقراطية بجميع أشكالها و صورها طاغية على كل حاجة فى الفيلم بشكل رهيب .. كل حاجة لازم لها 100 ورقة و ختم و إمضاء و لازم تمر بإجراءات معقدة و تاخد أطول وقت ممكن عشان تتعمل .. مفيش أى حد كفؤ فى أى وظيفة أو منصب أبدا ، و الموظفين بينتهزوا أى فرصة مايكونش حد شايفهم فيها عشان يلعبوا أو يتفرجوا على التليفزيون و يضيعوا الوقت ، و لما بيحصل أى خطأ بيبقى كل واحد همه الأكبر انه يكون الخطأ بسبب أى حد تانى مش غلطته هوا ، بدل ما يكون همه انه مايبقاش فى خطأ من الأساس .. مفيش ولا شاب واحد واخد أى منصب كبير أو حتى متوسط المستوى ، كلهم كبار فى السن حتى رجال الشرطة كمان لدرجة ان أكبر مسئول على رأس وزارة المعلومات "مستر هيلبمان" قعيد و ماشى بكرسى متحرك ، دولة عواجيز بمعنى الكلمة .. و البيروقراطية هنا هى الأخ الكبير ..
 
فى كل مشهد سواء فى بيت أو فى أى مكان عام لازم تلاقى الأنابيب أو المواسير الكبيرة القبيحة بتاعة الخدمات المركزية بارزة بشكل فج غير متسق مع المكان تماما و الناس متعايشة معاها و متعودة عليها و ماحدش بيجرؤ يفكر فى تغييرها أو مداراتها أو اللعب فيها بأى شكل و إلا تبقى جريمة كبرى ، فى دلالة على التغلغل الاخطبوطى الكابوسى للنظام فى كل شئ و سيطرته التامة و ضمان خضوع الناس و تسليمهم التام ..
 
فى العالم دا حياة الإنسان أصبحت مالهاش قيمة ، و الناس من كتر التفجيرات نحست و مشاعرها تبلدت تماما و مابقتش قادرة تتعاطف أو حتى تنتبه للناس اللى بتموت .. فى أحد المشاهد الناس قاعدة بتاكل فى مطعم راقى و فجأة حصل انفجار أطاح بجزء من المطعم و اتقتل عدد من الناس و الإسعاف جات و بتشيل الجثث و المصابين ، و رغم كدا الناس اللى فى الجانب الآخر من المطعم كملوا كلامهم و أكلهم عادى ولا كأن فى حاجة .. 
 
النظام بيلعب لعبة القط و الفار مع الإرهابيين ، و كل طرف زى ما يكون مستمتع بالدور بتاعه .. بعد أى تفجير إرهابى و موت أبرياء يطلع النظام تانى يوم يضرب مواقع لناس أبرياء برضو و يقول انه ضرب معاقل الإرهابيين و قضى عليهم و أخد بالتار ، طاب ما انت لو عارف معاقلهم و مواقعهم من الأول مابتقضيش عليهم مرة واحدة و خلاص ليه ؟!! ..
و فى الفيلم كمان ماشفناش ولا إرهابى واحد حقيقى .. فى أحد المشاهد فى الفيلم چيل بتسأل سام و بتقول له عمرك شفت إرهابى واحد حقيقى من بين الناس اللى بتعتقلوهم و تستجوبوهم فى قسم استخلاص المعلومات؟ و سام بيتنح زى ما يكون أول مرة ياخد باله من الحقيقة دى.
 
أنا حاسس انى زودتها فى الكلام عن الفيلم المرة دى (و لسه هاكمل) بس الصراحة كل اللى قلته دا مايجيش ربع الأحداث و التفاصيل و التيمات اللى فى الفيلم .. هوا دسم و مليان أفكار و رمزيات و معانى و يخليك تشغل مخك معاه طول الوقت ..
 
اسم الفيلم لخبطنى و خدعنى فى الأول لأن الفيلم مالوش أى علاقة بالبرازيل نفسها ، لكن فهمت بعد شوية ان البرازيل هنا بترمز إلى مكان بعيد هادى فيه خضرة و مية و سما جميلة صافية بيلجأ إليه سام فى أحلامه دايما عشان يهرب من الواقع الأليم الكئيب الملئ بالتفجيرات و المنظر القبيح بتاع المدينة اللى كله ناطحات سحاب و شوارع معفنة و سما ضبابية مليانة تلوث و دخان و سواد .. و عشان كمان بيدندن بأغنية قديمة شهيرة محبوبة اسمها برازيل برضو و هيا الأغنية الرئيسية أو تعتبر الساوندتراك الأساسى على مدار الفيلم .. اللى يسمع لحنها هايعرفه أو هايحس انه مألوف و سمعه قبل كدا ..
 
الأداء التمثيلى كان فى غاية القوة بالذات من "چوناثان برايس" اللى عمل دور سام ، و "كيم جريست" عملت دور چيل حلو برضو ، و ظهور خاص رائع جدا للممثل الكبير روبرت دى نيرو فى دور "تاتل" .. بالإضافة لباقى المجموعة اللى كانوا كلهم هايلين و كان واضح الانسجام بينهم لأن معظمهم اشتغلوا مع تيرى جيليام كذا مرة قبلها ..
 
من الحاجات اللى أدهشتنى لما قرأت عنها بعد ما شفت الفيلم أول مرة ان المخرج تيرى جيليام عشان يصدر الفيلم بالنسخة الأصلية اللى بين ايدينا اضطر يخوض حرب شبيهة بالحرب اللى خاضها سام فى الفيلم مع البيروقراطية و التسلط ، أو نقدر نقول إن قصة صدور الفيلم تعتبر امتداد مكمل لقصة الفيلم نفسه ... تيرى كان متعاقد مع شركة فوكس لتوزيع الفيلم فى أوروبا و مع شركة يونيڤرسال لتوزيع الفيلم فى الولايات المتحدة الأمريكية و كان العقد بينص على مدة زمنية للفيلم لحد 135 دقيقة ، و جيليام بعد ما خلص الفيلم لقاه عامل 142 دقيقة يعنى فرق بسيط 7 دقائق بس .. شركة فوكس وزعت الفيلم زى ما هوا عادى من غير مشاكل لكن شركة يونيڤرسال تمسكت بالشرط و اتلككت و المدير بتاعها كمان ماكانش عاجبه نهاية الفيلم و الرسالة السلبية بتاعته من وجهة نظره ، و كان عايز ينزل نسخة عبيطة مشوهة مدتها 94 دقيقة بالنهاية السعيدة الساذجة اللى بينتصر فيها الحب و البطل يهرب مع البطلة و يتجوزوا و يعيشوا فى تبات و نبات و الجو بتاع Love conquers all دا ، على أساس ان الجمهور عايز كدا يعنى .. جيليام اتجنن طبعا لأن دا بيدمر أساس و فكرة الفيلم أصلا .. حب ايه و بتاع ايه بس يا جماعة استهدوا بالله و اخزوا الشيطان كدا ، و مفيش فايدة .. يهديكوا يرضيكوا و مفيش فايدة برضو .. راح جيليام عامل عروض خاصة للفيلم لمجموعات من النقاد فى السر بالمخالفة للعقد ، و معظمهم أشادوا بيه جدا و ادوله جائزة مهمة جدا فى لوس أنچيلوس و كتبوا عنه بعد كده ، و كمان تيرى جيليام كتب مقال فى صحيفة أمريكية كبيرة بيخاطب فيه مدير الشركة و بيحرجه و بيقول له امتى هاتصدر الفيلم ، و قاد حملة كبيرة ضد الشركة تعاطف معاها كتير من النقاد و بدءوا يساندوه و يتضامنوا معاه .. فى النهاية اضطرت الشركة للاستسلام و أصدروا الفيلم بالنسخة الأصلية اللى بين ايدينا دلوقتى برؤية جيليام الشخصية..
 
الفيلم لما اتعرض فى الأول ما حققش إيرادات أو نجاح جماهيرى كبير فى السينما ، لكن مع مرور الوقت و انتشاره ناس كتير بدأت تتعلق بيه و تؤمن بالأفكار اللى فيه خاصة مع تحقق كتير منها على أرض الواقع بعد كدا الناس اعتبرته من أفلام النبوءات المستقبلية وقتها و بقى له طائفة معجبين كبيرة و واسعة جدا ، و لحد النهارده الفيلم ما زال كل اللى فيه بيتحقق و بيتكرر بأشكال و أسماء مختلفة بس .. 
 
و لما اتسأل تيرى عن وجهة نظره قال انه كان بيعمل الفيلم عشان يصور بيه الحاضر مش المستقبل ، بس الناس هيا اللى ماكانتش واخدة بالها وقتها ..
 
فيلم "برازيل" صدر فى أواخر سنة 1985 للمخرج الكبير "تيرى جيليام" و حاصل دلوقتى على تقييم عام 8/10 على IMDB و تقييم نقدى 98% على موقع Rotten Tomatoes .. من الكلاسيكيات الرائعة اللى ماتتفوتش بصراحة أنصح بمشاهدته بشدة و بإعادة مشاهدته مرات و مرات كمان.
 
برازيل BRAZIL

 
مشاركات أقدم المقال التالي
لا يوجد تعليقات
أضف تعليق
عنوان التعليق